يا سيدى عارفينها.. حافظينها صم.. مصر هبة النيل.. والذى قالها هيرودوت.. أنا لا أعلم ماذا فعل لكم هيرودوت هذا؟! سواح يونانى وقال جملة وهو معدى.. قفشتوا فيها ومش عايزين تسيبوها.. وهو يعنى هيرودوت ما نص كلامه غلط وتخاريف.. أعجبتكم الجملة؟! حاضر.. ولكن ليس كل ما يقوله هيرودوت أو غيره.. نأخذه هكذا.. أمراً مسلماً به.ولقد سمعنا مثلاً أن وزير الإسكان عنده مشروع لردم جزء من النيل، فثرنا ثورة عارمة وامتلأت الجرائد بجملة هيرودوت.. وهى أن مصر هبة النيل.. وهل هيرودوت يحب مصر أكثر يعنى من وزير الإسكان؟ نحن دائماً هكذا حساسون بصورة مفرطة.. تذكرون طبعاً "محمود ياسين" فى فيلم "الصعود إلى الهاوية" حينما قبض على الجاسوسة الحسناء عبلة "مديحة كامل" وحينما وصلت بهما الطائرة إلى مصر.. نظر محمود ياسين من شباك الطائرة وقال للجاسوسة.. ده الهرم.. ده النيل.. دى مصر يا عبلة.. وعبلة شافت النيل من هنا وهات يا عياط.نحن الذين أعطينا للنيل عبر أغانينا ورواياتنا وتاريخنا القديم تلك الهالة الأسطورية.. وهيرودوت طبعاً شارك فى الحكاية دى.. بالجملة اللى نقط بيها.. ولكن ماذا فعلنا بالنيل وماذا فعل بنا النيل؟ الذى حدث إن المصرى القديم اللى هو جد حضرتك جاء إلى هذه الدنيا فوجد نهراً عظيماً يشق البلاد من شمالها إلى جنوبها.. ووجد مياه تمشى من الجنوب إلى الشمال عكس كل الأنهار.. فأطلق عليه المياه التى تجرى بالعكس.. فآثر جدنا المصرى القديم ألا يتزحزح خطوة بعيدا عن النهر.. وظل أولاده وأحفاده يتكاثرون حول ضفاف النيل تاركين مصر كلها فاضياااه.. والزحام حول النيل جعلنا نتصارع ونكره بعضنا، وكل واحد نفسه يبص ع اللى جنبه يلاقيه راح فى ستين داهية.. والنيل هو الذى رفع أسعار الشقق التى تطل عليه إلى أرقام فلكية، وعلى النيل أيضاً عشاق يتهامسون بكلام من اللى قلبك يحبه.. وأيديهم متشبثة ببعضها.. تؤدى إلى فرح على النيل وعروسه وعريس يلتقطان صوراً تذكارية فوق الكوبرى..والنيل هو الذى علمنا التكاسل.. والتامل والقعاد ساعة العصارى مأخوذين بسحره وجماله.. ونحن نحمد ربنا ونشكره أنه خلق لنا النيل.. وإلا كنا اشتغلنا بأه!!.. ومع ذلك.. ورغم كل هذه الشاعرية التى منحنا إياها النيل.. إلا أننا لم نترك شيئاً إلا وألقيناه فى النيل.. من أول عروس النيل التى كنا نلقى بها فيه فى عيد وفاء النيل.. إلى نفايات المصانع.. والزبالة.. ومخلفات المراكب السياحية.. نفعل ذلك كله وما إن يقترح احدهم أن يمس النيل نثور ونقلب الدنيا.. ولكن فكروا معى.. تخيلوا.. والخيال لن يكلفكم شيئاً.. ماذا لو وزير الإسكان ردم النيل كله؟! لماذا تحملقون فيا هكذا.. صبرا.. أنا بقول نتخيل.. النيل زى ما هوه يا جماعة يجرى بالعكس من آلاف السنين أنا فقط أقول إذا يعنى ردمنا النيل كله.. وتحول نهر النيل إلى شوارع أسفلتيه عظيمة.. وعمائر وفيلات على أعلى مستوى.. هنا لن نصبح فى حاجة إلى كبارى.. واخدين بالكو.. يعنى كوبرى أكتوبر اللى بتقعد واقف ساعة عليه لن يعطلك بعد الآن.. انت فى الزمالك وعايز تروح بولاق أبو العلا.. خمس ثوانى تبأه هناك.. يا دوب ح تعدى الشارع.. والشقة فى الزمالك ستباع بسعر رمزى.. طالما أنها لم تعد تطل على النيل.. وإذا بعنا كل العوامات والفنادق العائمة بالعملة الصعبة سينتعش اقتصادنا بالتأكيد.. لاحظوا أننى دارس المشروع اقتصادياً كمان- يلاحقنى أحد المعارضين بسؤال.. وثروتنا السمكية التى نعتمد عليها من النهر؟! أرد عليه بهدوء.. يا عزيزى.. أنت المياه تحيط بك من كل جانب.. من البحر الأحمر والمتوسط ومع ذلك نحن نستورد الأسماك يا صديقى.. دعونا نواجه أنفسنا ولا نصدق كلام هيرودوت.. نحن لا نأخذ شيئاً من النيل.. سوى الأغانى والتأمل.. واللقاءات العاطفية، وهذا كله يمكن أن نحققه فى الطريق الجديد الذى سنشيده مكان نهر النيل.. وبعدين هيرودوت ده قال الجملة ورجع ع اليونان.. لا عايش معانا ولا حاسس بظروفنا.. وربما إذا ردمنا النيل لن يكون هناك معنى لأن نتكاثر ونزدحم حول هذا الشريط.. الذى التصقنا به من أيام الفراعنة.. وربما كبرت مصر بعدها وانطلقنا فى الصحارى.. نعمر.. ونتكاثر.. لقد ظللنا خائفين طوال عمرنا من منابع النيل أحسن حد يقفله علينا من هناك ما نقفله إحنا من هنا.. ونواجه أنفسنا.. ستكلمنى عن مياه الشرب.. أنا عارف.. ولكن لنقل الحقيقة.. ثذكرون جميعاً تلك الجملة الشهيرة التى لا أعرف من قالها.. تلاقيه هيرودوت برضه ما هو كلامه كتير.. وهى أن من يشرب النيل.. لابد وان يرجع إليه.. كلام عجيب.. ناس تيجى ترمى كلام كده وتمشى وتسيبنا لايصين.. هل جربت أن تضع فلتر فى الحنفية.. طبعاً فعلت ذلك وحينما فككت الفلتر لتنظفه ماذا وجدت؟!! أنا أعرف إن الشاى له تفل إنما الميه يبألها تفل دى جديدة.. ثم من قال لك إن المياه فى مصر مجانية؟ إن سعر لتر المياه ضعف سعر لتر البنزين.. وأنا لا أقول يعنى نردم النيل كله.. وإنما أقول.. يمكن أن نحفر نيلاً آخر.. من عند أسوان وتخش شمال كده فى الصحرا وعلطول وأنت ماشى.. نيل بالعرض.. نتكاثر حوله مرة أخرى ونزدحم حوله مرة أخرى.. وترتفع أسعار الشقق المحيطة به.. ويجلس على ضفافه العشاق.. ويأتى إلينا مؤرخ يونانى يقول الكلمتين اللى ربنا يقدره عليهم ويفارقنا.. وحينما يأتى إلينا هنا.. ويشاهد الطريق الجديد الذى شيدناه مكان النيل.. سيؤكد لنا أن مصر ليست هبة النيل.. وإنما هبة وزير الإسكان.