كتب يوسف معاطي
من البالطو بتاعي
أغنية قديمة تتداعى لمسامعي دون أي مناسبة .. والأغنية
مرتبطة عندي بمرحلة الطفولة وبالشتاء القارس .. تقول
الأغنية بشجن غريب : الدنيا برد .. الدنيا برد .. وعم خليل
بيسقي الورد .. الدنيا برد يا عم خليل .. وبتسقي الورد ياعم
خليل .. كنت أسمعها فأتأثر جدا .. وأنا أتخيل عم خليل ذلك
الكهل النحيل وهو يسقي الورد في عز البرد وأنا أغوص بين
البطاطين والألحفة فأرثي لحاله .. برغم أنني لم ألتق بعم خليل
أبدا إلا انني قررت ألا أحذو حذوه .. وألا أفعل أي شيء في
الشتاء مستخدما كل الوسائل البدائية والتكنولوجية في التدفئة
.. من الخشب إلى الفحم إلى الدفايات والتكييفات .. حتى أصبح
شهر يناير بالنسبة لي من أكثر شهور السنة ارتفاعا في درجة
الحرارة .. وكنت أسميه شهر ( يانايم ) تعبيرا عن الحالة التي
أنا فيها طول الشهر .. وإذا حدث ـ وهذا لا يحدث إلا نادرا ـ
وخرجت لسبب قهري فالأشياء التي أرتديها تؤهلي بجدارة
لأن أذهب في بعثة إلى الاسكيمو كخبير في التدفئة .. وكنت قبل
خروجي أؤمن نفسي .. أكلم المكان الذي سأذهب إليه وأرتب كل
شيء .. أتأكد أنني سأجلس في ركن دافيء ليس به تيار هواء ،
وأنهم بدأوا بالفعل في إشعال النار كإجراء طبيعي لاستقبالي ..
وما أن أصل إلى المكان وأنزل من السيارة .. تتحول المسافة
بين السيارة والركن البعيد الدافيء .. إلى صراع حقيقي مع الطبيعة ..
ألف الكوفية على وجهي وأنزل الطاقية الصوف على جبهتي ..
وأقطع المسافة جاريا .. ما أروع الدفء .. إن استمتاعي بالحرارة
وتلذذي بها يجعلني أعتقد أن قيس بن الملوح حينما ذهب لليلى العامرية
لم يكن في نيته لا حب ولا جواز ولا ليلى كانت في دماغه .. ده
راجل بردان ولابرد في الجزيرة العربية بعيد عنكوا سم بيدق في
المفاصل علطول .. ولذا فقد فهمه أبو ليلى .. وقالها له بصراحة
في وشّه .. جئت تطلب نارا أم جئت تشعل البيت نارا ؟! والذي
يؤكد كلامي أن قيس بمجرد ما أخذ ( المنقد ) فيه النار والعة
وموهوجة راح مادد إيديه ـ أنا بعمل كده ـ وفاردهم على النار ..
وصرخت ليلى .. ويح قيس تحرقت راحتاه.. وما شعر !!
ولذا فأنا أبدأ الاستعدادات للشتاء من شهر سبتمبر أنزل الشتوي
وأحطه كده قدامي وأقعد ألقط فيه كده على خفيف .. النهاردة
أخطف بلوفر ع القميص .. بكرة أشقط جاكيت .. ويندهش من هم
حولي بلوفر في عز الحر !! ولا أعبأ بسخريتهم .. فانا مثل هيئة
الأرصاد .. أشعر بالموجة الباردة وهي آتية من أوروبا قبل أن
تصل إلينا بشهور .. تستطيع أن تقول إن بيني وبين القطب الشمالي
عمار .. وبين كل البلوفرات والجاكيتات والشرابات الصوف ..
لا أعتزّ ولا أقدّر سوى ذلك البالطو الصوف العظيم الذي أحتفظ
به منذ سنوات طويلة .. صوف إنجليزي عتيق كان تشرشل يرتدي
أخوه أيام الحرب العالمية الثانية .. وقد فشلت كل محاولات زوجتي
للتخلص منه لأنه موضة قديمة .. وكم حاولت أن أقنعها أن البرد
مافيهوش موضة .. وأنني حينما أرتديه يخفيني تماما حتى أن أحدا
لا يعرفني .. ولكنها أكدت لي أن الناس لا تعرفني إلا بالبالطو ده ..
لأن منظره يكسف .. فقلت لها إنني لم أخدعها .. لقد تزوجتني وأنا
بهذا البالطو .. وعليها أن تتقبلنا نحن الاثنين معا .
يا أخي ما أن يدخل الشتاء .. حتى تبدأ المشاكل .
ولقد أيقنت دائما أن علاقة كبيرة تربط بين عاطفتنا نحو المرأة وبين
الطقس وقد استعار الحب تعبيرات مناخية طقسية حتى أن لفظ الحبيبة
استعاض عنه العشاق بتعبير ( الجو ) وظل هذا التعبير ( شغال ) ربما
حتى نهاية القرن لاماضي .. قبل أن يستبدله عشاق القرن الواحد والعشرين
بتعبير ( ... ) .. وتلك العلاقة بين الحب وهيئة الأرصاد هي التي جعلت
فيروز تصرخ صرختها المدوية .. حبيتك بالصيف .. ثم تعود وتصرخ
حبيتك بالشتى .. وهو نوع من الذل تذل به حبيبها وتعايره لأنها أحبته
في الصيف بحرّه وعرقه .. وفي الشتاء ببرده وزكامه .. بينما يختلف
الموقف مع سعاد حسني التي أحبت في الربيع والجو بديع وقالت له
ببساطة .. بوسه ونغمض وياللا .. وقد ظلت هذه العلاقة العاطفية المناخية
الغنائية ظاهرة ثابتة في حياتنا .. رغم أن أغانينا ـ ما أكذبها ـ أحيانا تميل إلى
المبالغة .. فلا أعلم ما الداعي لأن يكتب أحدهم .. حلاوة شمسنا وخفة دمّنا ..
والجو عندنا ربيع طول السنة .. هل يكتب ذلك لكي يفرس واحدا مثلي ؟!
هل يكتب ذلك مثلا لأنه يعيش خارج البلاد أم أنه من شعراء المهجر .. أخذنا
النوة في الإسكندرية فوق راسنا وقالوا إنها نوة قاسم .. وتحملنا الرياح الشديدة
والمطر الغزير والرعد والبرق .. ورزع الشبابيك وانقلاب الدواليب .. وقلنا
كما قالت فيروز .. في أيام الشتى .. ثم فجأة وبدون أي مناسبة وأنا قابع بداخل
البالطو الصوف بتاعي ـ لما تيجي فرصة ح أعرفكم بيه أكتر .
خيل إلي أنني أسمع صوت زوجتي آتيا من بعيد .. وهي تصرخ .. انت مجنون ..
حدّ ييجي اسكندرية في عز الشتاء !! يعني هيه الكتابة ما حبكتش معاك إلا في
التلج ده !! ما قلت لك نروح شرم .. و .. مالي لا أسمعها بوضوح برغم أنها
جالسة في المقعد المجاور ؟! يمكن قاعدة في حتّة مافيهاش إرسال ..
ولكنها قامت وفتحت أزرار البالطو العظيم الذي أرتديه وشالت الياقة المرفوعة
على أذني وقالت إنت سامعني .. قلت لها أيوه كده سامعك كويس .. قالت : لازم
نروح شرم .. قلت لها .. حاضر . لكن من الذي سيخرج من البالطو في هذا
الصقيع ويذهب ليحجز لكم .. قالت اتصل بالتليفون فصرخت فيها .. انت
اتجننتي .. انت عاوزاني أطلع ايدي من جيوبي كمان .. وكالعادة قامت
المدام بكل الإجراءات وسافرنا إلى شرم .. وما كدت أنزل من الطيارة ..
بعيد عنكو .. إيه ده .. درجة الحرارة تصل إلى درجة الغليان .. ما هذا ..
جهنم !! كانت الحرارة قد ارتفعت بصورة غريبة والتهبت الشمس كأننا
في عز أغسطس وقالوا إنها الموجة الحارة القادمة معرفش منين .. خلعت
البالطو العظيم بتاعي ـ معلش مش وقته أحكيلكم عنه ـ ولبست فانلة نصف
كم وشورت ومش طايق نفسي .. قال خبراء الأرصاد .. إن يوم السبت والأحد
كانا شتاء قارسا جدا يصل إلى درجة الصقيع .. ونصحونا نلبس ونتقل .. أما
يوم الاثنين من بعد الساعة تسعة كده صيف حار جدا وحذرونا من ضربات
الشمس ونصحونا أن نتخفف .. إنما يوم التلات من 8 إلى 12 .. ما نضمنش
ح يحصل إيه يبأه ما نخففش احتياطي .. أما يوم الأربع فهو جو خريفي كئيب ..
بلاش تقعد في البيت منعا للمشاحنات العائلية .. يوم الخميس بأه .. تراب وعفرة ..
وزعابيب .. هكذا .. فصول السنة كلها في أسبوع ..
أخذنا برد اسكندرية وحر شرم الشيخ .. كنت أنوي أن أعرفكم بالبالطوبتاعي
ومدى اعتزازي به برغم سخرية الآخرين منه .. إلا أنني أعتذر لأن موجة
البرد عادت مرة أخرى وأنا أكتب لكم الآن .. من داخل البـــالطو ..
أغنية قديمة تتداعى لمسامعي دون أي مناسبة .. والأغنية
مرتبطة عندي بمرحلة الطفولة وبالشتاء القارس .. تقول
الأغنية بشجن غريب : الدنيا برد .. الدنيا برد .. وعم خليل
بيسقي الورد .. الدنيا برد يا عم خليل .. وبتسقي الورد ياعم
خليل .. كنت أسمعها فأتأثر جدا .. وأنا أتخيل عم خليل ذلك
الكهل النحيل وهو يسقي الورد في عز البرد وأنا أغوص بين
البطاطين والألحفة فأرثي لحاله .. برغم أنني لم ألتق بعم خليل
أبدا إلا انني قررت ألا أحذو حذوه .. وألا أفعل أي شيء في
الشتاء مستخدما كل الوسائل البدائية والتكنولوجية في التدفئة
.. من الخشب إلى الفحم إلى الدفايات والتكييفات .. حتى أصبح
شهر يناير بالنسبة لي من أكثر شهور السنة ارتفاعا في درجة
الحرارة .. وكنت أسميه شهر ( يانايم ) تعبيرا عن الحالة التي
أنا فيها طول الشهر .. وإذا حدث ـ وهذا لا يحدث إلا نادرا ـ
وخرجت لسبب قهري فالأشياء التي أرتديها تؤهلي بجدارة
لأن أذهب في بعثة إلى الاسكيمو كخبير في التدفئة .. وكنت قبل
خروجي أؤمن نفسي .. أكلم المكان الذي سأذهب إليه وأرتب كل
شيء .. أتأكد أنني سأجلس في ركن دافيء ليس به تيار هواء ،
وأنهم بدأوا بالفعل في إشعال النار كإجراء طبيعي لاستقبالي ..
وما أن أصل إلى المكان وأنزل من السيارة .. تتحول المسافة
بين السيارة والركن البعيد الدافيء .. إلى صراع حقيقي مع الطبيعة ..
ألف الكوفية على وجهي وأنزل الطاقية الصوف على جبهتي ..
وأقطع المسافة جاريا .. ما أروع الدفء .. إن استمتاعي بالحرارة
وتلذذي بها يجعلني أعتقد أن قيس بن الملوح حينما ذهب لليلى العامرية
لم يكن في نيته لا حب ولا جواز ولا ليلى كانت في دماغه .. ده
راجل بردان ولابرد في الجزيرة العربية بعيد عنكوا سم بيدق في
المفاصل علطول .. ولذا فقد فهمه أبو ليلى .. وقالها له بصراحة
في وشّه .. جئت تطلب نارا أم جئت تشعل البيت نارا ؟! والذي
يؤكد كلامي أن قيس بمجرد ما أخذ ( المنقد ) فيه النار والعة
وموهوجة راح مادد إيديه ـ أنا بعمل كده ـ وفاردهم على النار ..
وصرخت ليلى .. ويح قيس تحرقت راحتاه.. وما شعر !!
ولذا فأنا أبدأ الاستعدادات للشتاء من شهر سبتمبر أنزل الشتوي
وأحطه كده قدامي وأقعد ألقط فيه كده على خفيف .. النهاردة
أخطف بلوفر ع القميص .. بكرة أشقط جاكيت .. ويندهش من هم
حولي بلوفر في عز الحر !! ولا أعبأ بسخريتهم .. فانا مثل هيئة
الأرصاد .. أشعر بالموجة الباردة وهي آتية من أوروبا قبل أن
تصل إلينا بشهور .. تستطيع أن تقول إن بيني وبين القطب الشمالي
عمار .. وبين كل البلوفرات والجاكيتات والشرابات الصوف ..
لا أعتزّ ولا أقدّر سوى ذلك البالطو الصوف العظيم الذي أحتفظ
به منذ سنوات طويلة .. صوف إنجليزي عتيق كان تشرشل يرتدي
أخوه أيام الحرب العالمية الثانية .. وقد فشلت كل محاولات زوجتي
للتخلص منه لأنه موضة قديمة .. وكم حاولت أن أقنعها أن البرد
مافيهوش موضة .. وأنني حينما أرتديه يخفيني تماما حتى أن أحدا
لا يعرفني .. ولكنها أكدت لي أن الناس لا تعرفني إلا بالبالطو ده ..
لأن منظره يكسف .. فقلت لها إنني لم أخدعها .. لقد تزوجتني وأنا
بهذا البالطو .. وعليها أن تتقبلنا نحن الاثنين معا .
يا أخي ما أن يدخل الشتاء .. حتى تبدأ المشاكل .
ولقد أيقنت دائما أن علاقة كبيرة تربط بين عاطفتنا نحو المرأة وبين
الطقس وقد استعار الحب تعبيرات مناخية طقسية حتى أن لفظ الحبيبة
استعاض عنه العشاق بتعبير ( الجو ) وظل هذا التعبير ( شغال ) ربما
حتى نهاية القرن لاماضي .. قبل أن يستبدله عشاق القرن الواحد والعشرين
بتعبير ( ... ) .. وتلك العلاقة بين الحب وهيئة الأرصاد هي التي جعلت
فيروز تصرخ صرختها المدوية .. حبيتك بالصيف .. ثم تعود وتصرخ
حبيتك بالشتى .. وهو نوع من الذل تذل به حبيبها وتعايره لأنها أحبته
في الصيف بحرّه وعرقه .. وفي الشتاء ببرده وزكامه .. بينما يختلف
الموقف مع سعاد حسني التي أحبت في الربيع والجو بديع وقالت له
ببساطة .. بوسه ونغمض وياللا .. وقد ظلت هذه العلاقة العاطفية المناخية
الغنائية ظاهرة ثابتة في حياتنا .. رغم أن أغانينا ـ ما أكذبها ـ أحيانا تميل إلى
المبالغة .. فلا أعلم ما الداعي لأن يكتب أحدهم .. حلاوة شمسنا وخفة دمّنا ..
والجو عندنا ربيع طول السنة .. هل يكتب ذلك لكي يفرس واحدا مثلي ؟!
هل يكتب ذلك مثلا لأنه يعيش خارج البلاد أم أنه من شعراء المهجر .. أخذنا
النوة في الإسكندرية فوق راسنا وقالوا إنها نوة قاسم .. وتحملنا الرياح الشديدة
والمطر الغزير والرعد والبرق .. ورزع الشبابيك وانقلاب الدواليب .. وقلنا
كما قالت فيروز .. في أيام الشتى .. ثم فجأة وبدون أي مناسبة وأنا قابع بداخل
البالطو الصوف بتاعي ـ لما تيجي فرصة ح أعرفكم بيه أكتر .
خيل إلي أنني أسمع صوت زوجتي آتيا من بعيد .. وهي تصرخ .. انت مجنون ..
حدّ ييجي اسكندرية في عز الشتاء !! يعني هيه الكتابة ما حبكتش معاك إلا في
التلج ده !! ما قلت لك نروح شرم .. و .. مالي لا أسمعها بوضوح برغم أنها
جالسة في المقعد المجاور ؟! يمكن قاعدة في حتّة مافيهاش إرسال ..
ولكنها قامت وفتحت أزرار البالطو العظيم الذي أرتديه وشالت الياقة المرفوعة
على أذني وقالت إنت سامعني .. قلت لها أيوه كده سامعك كويس .. قالت : لازم
نروح شرم .. قلت لها .. حاضر . لكن من الذي سيخرج من البالطو في هذا
الصقيع ويذهب ليحجز لكم .. قالت اتصل بالتليفون فصرخت فيها .. انت
اتجننتي .. انت عاوزاني أطلع ايدي من جيوبي كمان .. وكالعادة قامت
المدام بكل الإجراءات وسافرنا إلى شرم .. وما كدت أنزل من الطيارة ..
بعيد عنكو .. إيه ده .. درجة الحرارة تصل إلى درجة الغليان .. ما هذا ..
جهنم !! كانت الحرارة قد ارتفعت بصورة غريبة والتهبت الشمس كأننا
في عز أغسطس وقالوا إنها الموجة الحارة القادمة معرفش منين .. خلعت
البالطو العظيم بتاعي ـ معلش مش وقته أحكيلكم عنه ـ ولبست فانلة نصف
كم وشورت ومش طايق نفسي .. قال خبراء الأرصاد .. إن يوم السبت والأحد
كانا شتاء قارسا جدا يصل إلى درجة الصقيع .. ونصحونا نلبس ونتقل .. أما
يوم الاثنين من بعد الساعة تسعة كده صيف حار جدا وحذرونا من ضربات
الشمس ونصحونا أن نتخفف .. إنما يوم التلات من 8 إلى 12 .. ما نضمنش
ح يحصل إيه يبأه ما نخففش احتياطي .. أما يوم الأربع فهو جو خريفي كئيب ..
بلاش تقعد في البيت منعا للمشاحنات العائلية .. يوم الخميس بأه .. تراب وعفرة ..
وزعابيب .. هكذا .. فصول السنة كلها في أسبوع ..
أخذنا برد اسكندرية وحر شرم الشيخ .. كنت أنوي أن أعرفكم بالبالطوبتاعي
ومدى اعتزازي به برغم سخرية الآخرين منه .. إلا أنني أعتذر لأن موجة
البرد عادت مرة أخرى وأنا أكتب لكم الآن .. من داخل البـــالطو ..
No comments:
Post a Comment