لاشك أن الشريط السينمائي ما هو إلا محاولة بشرية لتلخيص الحياة, في ساعتين تقريبا, وفي خلال الساعتين يتقبل الجمهور العزيز أن تحدث أشياء لو حدثت في الواقع لاستغرقت عشرات السنين, فهذا بطلنا يهم بتقبيل البطلة فجأة.. فتقاومه.. وتضربه بيديها الطريتين علي صدره القوي.. لأ.. ما يصحش.. عيب يا محسن.. لأ.. يا محسن.. ولكن أمام إصرار الذكر وضعف الأنثي.. تستسلم بطلتنا فجأة برضه وهي طيبة بالمناسبة.. لتصبح في المشهد التالي حامل علطول, حيث يرفض محسن الاعتراف بالطفل القادم.. وفي المشهد الذي يليه يأتي الطفل مجهول النسب بالنسبة لكل كاست الفيلم, بينما لا يعرف أحد أن محسن هو الذي معها سوي الجمهور والطيبة طبعا..
ويلي ذلك مباشرة مشهد يبدأ من عند قدمي الطفل لتطلع الكاميرا حيث صار الطفل شابا.. وقد ظهر الشيب علي شعر محسن أما الطيبة فلا تحدث علي وجهها أو ملامحها أي تغييرات, خاصة بتقدم السن لاعتبارات أنثوية نعلمها جميعا.. يا سلام لو كانت حياتنا فعلا سريعة متلاحقة كشريط سينمائي.
تأتي ابنتي من المدرسة سعيدة مبتهجة.. تقول لي اسمع يا بابي الأغنية اللي علموهالنا في المدرسة.. أنظر إليها بحب أبوي جميل به لمسة حزينة لا أعرف سببها حتي الآن.. وأربت عليها قائلا: غني يا هيا.. وتبدأ هيا في الغناء.. ثم زووم إن علي وجهي.. ثم تعود الكاميرا في اللحظة نفسها لهيا وقد صارت فتاة ناضجة وبقت فرد محصلش ومزة حكاية, وقد وفرت عليا سنوات من المصاريف والمشاكل والعذاب.. أما بالنسبة لرحلة كفاحي وهي في الواقع كانت رحلة سخيفة رذلة.. استمرت لأكثر من ربع قرن ولا تصدقوا أن التعب والشقاء الذي نلاقيه في حياتنا هو الذي يعطي لها مذاقا!!
هذا كله تهجيص.. أتخيل لو كانت رحلة كفاحي بإيقاع السينما.. حينما تخرجت في الجامعة باحثا عن فرصة لأكتب في أي حتة ثم ذهبت إلي مجلة الكواكب.. فقابلني الأستاذ رجاء النقاش رئيس التحرير ووضع يده علي كتفي وقال ياللا شد حيلك وورينا بأه.. يا سلام بأه لو بعد هذا المشهد مباشرة( فوتو مونتاج) لقطات سريعة لي وأنا سهران أكتب وبجواري كوب الشاي والأباجورة مضاءة.. للتعبير عن المعاناة.. ثم كرة أرضية تلف.. ومقالاتي تنشر هنا وهناك في الدنيا كلها, ثم أوراق النتيجة تتغير بسرعة إلي أن أطلع علي المنصة في المشهد التالي وقد شاب شعري قليلا.. لأستلم جائزة نوبل.
الشيء الآخر الذي طالما حلمت به ولا يحدث في الواقع.. تلك الصدمات التي تتلقاها من أقرب الأصدقاء.. لنكتشف بعد عمر طويل أنهم كانوا أشرارا ويضمرون لنا نوايا سيئة.. أما في الشريط السينمائي فالشرير واضح من أول لحظة.. فلا نضيع وقتنا في تصديقه.. ولقد سرقني أحد الأصدقاء فعلا ورفعنا قضية.. بقالها في المحاكم خمس سنين ولم نأخذ شيئا.. لو كان الأمر بيدي كسيناريست.. لهبطت برجال البوليس عليه في ثانية.. ورأيته وهم يدخلونه البوكس وهو يأخذ جزاءه.. ان هذا لا يستغرق في الشريط أكثر من دقيقتين.. وفي استعراضي لشريط حياتي اكتشفت أنني عشت كل أنواع الدراما.. الرومانسية.. والميلودراما.
وحتي موضوع محسن.. مررنا به برضه.. ولكنه حدث في الحياة بعد أن تزوجنا واعترفنا بالطفلة.. وكان في شريط حياتي مواقف كوميدية خفيفة برضه.. لولاها لكان الشريط مقبضا جدا.. وأعترف بأنها لم تكن كلها كوميديا راقية من التي تعجب النقاد.. وأنما كان بها أحيانا بعض الإسفاف.. الشيء الوحيد الذي خلا منه شريط حياتي.. هو الأكشن!! وهذه مسألة ضايقتني كثيرا.. فلم يحدث أن طاردت لصا أو قدت سيارة بسرعة مهولة حينما كانت العصابة تتعقبني في مطاردة مثيرة.. لم يحدث أن دشدشت عربيات أو تسلقت جبالا..
أو دخلت في معركة حامية الوطيس كما نري في معظم الأفلام الآن.. وكثيرا ما أتأمل بإعجاب تلك السهولة التي يتم بها ضرب الخصوم والانتصار عليهم في الشريط السينمائي, فلا يلزم البطل لكي يصرع خصمه إلا أن يفاجئه بلكمة قوية علي فكه يسمع صوتها الدولبي في قاعة السينما كلها فتجد علي أثرها الخصم صريعا ببونية واحدة..
آه لو كانت حياتنا مثل الشريط السينمائي.. لما كانت هناك أي مشكلة فعلا.. إذا مرضت مثلا.. تدخل المستشفي في مشهد واحد ثم لقطة أو اثنتين علي جهاز القلب وتخرج وانت زي الحديد.. بينما الذين يدخلون المستشفي في الحياة لا يخرجون.. إذا دخلت السجن.. هو مشهد في الزنزانة ثم ينفتح باب السجن لتخرج وقد مرت السنون.. حتي إذا مت في الشريط السينمائي.. ما هي إلا ملاءة بيضاء يشدونها عليك وانت علي السرير مرتاح قرير العين هانئ البال.. بل إن مقالا كالذي بين يديك الآن.. لو كنت أكتبه في الشريط السينمائي ما كان أخذ مني كل هذا الجهد.. كنت سأكتفي بأن أضع القلم علي أول الصفحة و... لا أكتب شيئا.. ثم في المشهد التالي مباشرة.. الصراف يعطيني أجري كاملا عن كتابة المقال.
Sunday, July 8, 2007
شريط حياتي يا عين
كتب : يوسف معاطي
شريط حياتي يا عين
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment